الاثنين، 25 نوفمبر 2019

زهير الشلبي ///////

المد والجزر..

رافقت طفلة صغيرة جداً أهلها رحلة اللجوء من فلسطين إلى منطقة الخليج.

هي لا تذكر أبداً إلا أنها بدأت رحلة الذكرى من هناك عند الشواطئ الساخنة، حيث السُّمر ملفوفون بالإزار ، ملفوحون بهبات الرمال والأمل يحدوهم بأن العدل في توزيع الثروة سينتشر، وتصبح الأرض أكثر اخضراراً والبحر أقل خطورة والوجوه تسودها البشاشة..

...

قالت الجدة : كنت صغيرة جداً ، وربما مضى على القصة ستين عاماً، لكنني كنت طفلة جميلة وافدة، والحفاوة بي مميزة. كنت صاحبة صوت صداح قوي، فتركوني أقول بضع كلمات على الملأ في حفل أقامته الشركة المالية الكبيرة هناك والتي يعمل فيها أبي، ثم أعطوني مقابل الكلمتين مائتي دينار. كانت تلك النقود هي أول مال أقبضه في حياتي..

كنا فرحين بعمل أبي في شركة "بدر" ذلك الفتى اليافع الوحيد الذي ورث عن أبيه تلك الثروة الكبرى في المنطقة، والذي كان يبدو أنه يراها جزئياً عبئاً على رومانسيته.

تتابع صاحبة الذكريات الأم والجدة قائلة:

- ما أجمل "بدر"  الذي كان كالبدر في محياه! كان يقضم حبة اللوز بين أسنانة على ثلاث مراحل ثم يلوكها على مهل بوجهه النضر الحزين، فهو رغم كل الثراء الذي لديه، وشركته الضخمة وكل المنتفعين من حوله/ يحس بأنه وحيد..

أصلحت السيدة جلستها المتعبة على الكرسي أمامنا ثم استأنفت ذكرياتها قائلة:

- في يوم الاحتفال ذاك قرر بدر أن يأخذ من يصطفيهم معه في رحلة بحرية على متن قاربه الخاص..

كنا من المحظوظين، فأبي كان أثيراً لديه يثق به بين موظفيه الكثيرين، وكنت أنا طفلة فرحة بين المدعويين الذي كانوا يحتفون بالطفلة الجميلة في هذه الرحلة النادرة. كنت ألاحظ صاحب كل شيء الفتى بدر وكأنه شخص مختلف عنا، فهو الذي قد يكون أغنى مخلوق يمكن أن يسمع احدنا به، لكنه أكثرنا صمتاً وشحوباً.

كانت الرحلة جميلة جداً خلال ساعاتها الأولى ونحن نراقب الشاطئ القريب حيث يبدو المشهد،  وحيث أنوار البلدة تتزايد بينما تختفي الشمس خلف الأفق.

هناك قرر السيد الفتى بدر العودة، لكن القارب لمس رمل القاع في بطنه وتوقف هناك..

لاحظت القلق على وجوه الموجودين. صرت أسمع إشارات لمحاولات اتصال ولكن بدون جدوى أو جواب ..

قال أبي وقتها للفتى بدر المالك:

- لا تخف يا بني ! هي حالة المد والجزر التي تحدث بوجود جاذبية القمر! عندما تعود حالة المد مجدداً بعد بضع ساعات سيعود كل شيء إلى حاله.

أجابه بدر قائلاً:

- أعرف ذلك، فأنا ابن هذه البلاد، لكن ما يزعجني كيف أنني لم أنتبه إلى ذلك، ولم ينبهني أحد إليه، وهكذا سنقضي هذه الليلة هنا حتى تنتهي هذه الحالة. الأسوأ من كل ذلك أن سائق القارب لم يهتم بإصلاح جهاز طلب النجدة .

أجابه أبي:

- إنها ليلة جميلة سنقضيها بالسمر وسنطلب من صغيرتنا الجميلة أن تغني ..

منذ تلك اللحظة نسينا حالة الانعزال عن العالم وقضينا ليلة مازالت ترن أوتارها في القلب حتى الآن..

مع طفولتي ، ومع كل تلك الحال، ما أزال أذكر وجه الفتى بدر كأنه البدر فعلاً لكنه شديد الشحوب، وكأن نفسه لا تعنيه، بل إنني أستطيع القول الآن بعد ستين سنة من الحادثة أنه لم يعرف للثراء معنى، وكأن كلمة أبوية التي افتقدها برحيلهما هي الأكثر أهمية لديه.

***

عندما عاد المد البحري من جديد، وسمعت حركة القارب عندما طفى وارتفع وأصبح قادراً على الإقلاع صفق الجميع وكنت أنا أيضاً أصفق بحماس بينما كنت الاحظ الارتياح في الوجوه ومنهم الفتى بدر. ..

وصلنا إلى الشاطئ فوجدنا البلدة كلها بانتظارنا تسألنا عما حدث.

عندما ودعنا بدر وصافحنا واحداً واحداً قال له أبي:

- آن الأوان لزواجك أيها الفتى الجميل. لا أعتقد إلا أن أباك وأمك يريدان ذلك.

وقتها نظر بدر في وجهي وكأنه يتحسر لأنني كنت صغيرة جداً من أجله، أو أنه تهيأ لي ذلك.

***

تزوج بدر فعلاً، وقد أقامت بلدته من أجله احتفالاً فريداً من نوعه.. لكن لم تتغير نظرته الحزينة أبداً..

لم يمض عام بعدها حتى ولدت زوجته (بدرَ) الصغير في نفس الوقت الذي كانت فيه البلدة تشيع جثمانه إلى قبر أبيه وأمه..

*****

زهير الشلبي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق